كهف الوحوش بالجلف الكبير.. أرشيف أسطوري يرسم هجرة ما قبل التاريخ

القاهرة: بوابة اليوم الإخبارية
في أعماق الصحراء الغربية، حيث العزلة والغموض، يختبئ “كهف الوحوش” أرشيفًا أسطوريًا يضم آلاف الرسوم الملونة التي لا تؤرخ فقط لعصور ما قبل التاريخ، بل تطرح ألغازًا عصية لم تُفك شفرتها بعد.
بين جدرانه، تتجسد مشاهد من حياة الصيادين واللاقِطين وبدايات الرعي، لتحول هذه المغارة إلى وثيقة حية عن فجر تاريخ مصر وإفريقيا.
المناخ.. محرك الهجرة الأعظم في فجر التاريخ
بدأت القصة قبل آلاف السنين (بين 6500 و4400 ق.م)، حين كانت الصحراء الغربية تعيش حقبة رطبة خلال الهولوسين الأوسط.
يؤكد الباحث الجيولوجي الدكتور الحسيني محمد، من موقع فوسفات مصر بالوادي الجديد، أن الدراسات تشير لوجود مسطحات مائية قرب الكهف، حيث عاش الإنسان في بيئة “سافانا” مطيرة، واصطاد الحيوانات وجمع النباتات، تاركًا بصمته على الجدران بأصباغ حمراء وصفراء وبيضاء وسوداء.
ومع تراجع الرطوبة قبل نحو 6 آلاف عام، بدأ الجفاف يزحف، فاضطر السكان للهجرة شرقًا نحو النيل أو جنوبًا في عمق أفريقيا، وهو ما انعكس على فنون الكهف. وكما قال الحسيني، كان المناخ هو “المُحرّك الخفي” لقصص تلك الجدران.
من “السباحين” إلى “الوحوش”.. قصة اكتشاف دامت 70 عامًا
في ثلاثينيات القرن الماضي، قاد الرحالة المجري لازلو ألماسي جولات استكشافية، اكتشف خلالها عام 1933 “كهف السباحين” (وادي سورة 1).
ويوضح الأثري محمد إبراهيم، مدير آثار الوادي الجديد، أن هذا الاكتشاف مهد الطريق لفهم الفن الصخري بالمنطقة، لكنه لم يكن “كهف الوحوش” نفسه. وبعد عقود، وتحديدًا عام 2002، عثر فريق مصري-إيطالي يضم ماسّيمو وجاكوبو فُوجّيني والباحث المصري أحمد مستكاوي على الكهف موضوع التقرير، والذي أصبح يُعرف باسم “فوجيني–مستكاوي” أو علميًا “وادي سورة 2”.
العلم يفك شفرة الألوان ويرسم خريطة الكهف الرقمية
نال الكهف اعترافًا رسميًا متزايدًا، ففي عام 2007، صدر قرار رئيس الوزراء رقم 10 بإدراج الجلف الكبير كمحمية طبيعية.
يشير الدكتور تامر رمضان، مدير محمية الجلف الكبير، إلى أن المنطقة أُدرجت أيضًا ضمن القائمة التمهيدية لمواقع التراث العالمي لمصر. وبدءًا من عام 2009، قادت جامعة كولونيا (معهد هاينريخ-بارت) مشروعًا ميدانيًا شاملًا للتوثيق باستخدام أحدث التقنيات، كالمسح ثلاثي الأبعاد والتصوير الفوتوغرامتري، مما أتاح كشف تراكبات أسلوبية بين مراحل الصيادين وظهور الرعاة لاحقًا.
لغز الأيادي الصغيرة.. هل رسم الإنسان أيادي الزواحف؟
في عام 2016، ظهرت نتيجة علمية مذهلة، حيث كشف تحليل مورفومتري لطبعات الأيادي الصغيرة بالكهف أن الكثير منها لا يعود لأطفال بشر، بل يُرجّح ارتباطه بزواحف كبيرة كسحالي الورل الصحراوي.
يضيف الدكتور تامر رمضان أن هذه النتيجة فتحت بابًا جديدًا من التساؤلات: لماذا لجأ الفنان القديم لقوالب غير بشرية؟ هل كان ذلك جزءًا من طقس حماية أو استحضار؟ يبقى السؤال مفتوحًا، لكنه يؤكد أن الكهف ينقل عالمًا أسطوريًا معقدًا.
8 آلاف نقش غامض على جدران تمتد 17 مترًا
يصف الدكتور تامر رمضان الكهف بأنه يشبه البهو الصخري، بعرض يقارب 17 مترًا وارتفاع يناهز 7 أمتار. تغطي جدرانه آلاف الرسوم، تقدرها بعض الدراسات بنحو 5 آلاف شكل، بينما ترفعها تقارير أحدث إلى قرابة 8 آلاف.
وتتنوع المشاهد بين كائنات أسطورية عديمة الرأس، وأعداد هائلة من الأيدي، وبشر في وضعيات تشبه السباحة، ورسوم لحيوانات برية كالزرافات والنعام والفيلة، بالإضافة لقطعان ماشية مستأنسة. وفي الجزء الشمالي تظهر صفوف لأشخاص، بينما تتكثف في الجنوب الأيقونات الأسطورية وتتراكم في الوسط طبعات الأيدي.
لغة الأسطورة.. هل كان الكهف درعًا ضد تغير المناخ؟
يقول محسن عبد المنعم الصايغ، مدير هيئة تنشيط السياحة بالوادي الجديد، إن أسرار الكهف لا تزال عصية على التفسير النهائي، متسائلًا: لماذا شُوّهت بعض الكائنات عمدًا؟ وهل كان حذف الرأس لإضفاء هالة طقسية أم لإبطال سحر؟
ويضيف مدير الآثار محمد إبراهيم أن قيمة الكهف تكمن في تعقيد سرده البصري، الذي يصنع خطابًا عن هوية الجماعة وطقوسها، مؤكدًا أن الفن هنا لم يكن ترفًا، بل “آلية تكيّف رمزية” في مواجهة تغير بيئي قاسٍ. ويعزز هذه الفكرة وجود “كهف الرماة” المجاور، الذي يضم نقوشًا لصيادين يحملون الأقواس، مما يرجح وجود شبكة مواقع مترابطة ضمن “خريطة مقدسة” محلية.
- للمزيد : تابع بوابة اليوم الاخبارية، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر .